الأربعاء، 22 سبتمبر 2010

دار جدي

دار جدي
بدر شاكر السياب 











مطفأةٌ هي النوافذ الكثار
و باب جدّي موصَدٌ و بيته انتظار
و أطرق الباب ، فمن يجيب ، يفتحُ ؟
تجيبني الطفوله ، الشباب منذ صار ،
تجيبني الجِرار جف ماؤها ، فليس تنضح :
" بويب " ، غير أنها تذرذر الغبار .
مطفأة هي الشموس فيه و النجوم .
الحُقُب الثلاث منذ أن خفقتُ للحياه
في بيت جدي ، ازدحمن فيه _ كالغيوم
تُختصر البحار في خدودهن و المياه .
فنحن لا تلم بالردى من القبور
فأوجه العجائز
أفصح في الحديث عن مناجل العصور
من القبور فيه و الجنائز .
و حين تقفز البيوت من بُناتها
و ساكنيها ، من أغانيها و من شكاتها
نحس كيف يسحق الزمان إذ يدور .
                        *
أأشتهيك يا حجارة الجدار ، يا بلاط ، يا حديد ، ياطلاء ؟
أأشتهي التقاءكن مثلما انتهى إلي فيه ؟
أم الصِّبا ، صباي و الطفولة اللعوب و الهناء ؟
و هل بكيت أن تضعضع البناء
و أقفر الفِناء أم بكيت ساكنيه ؟
أم أنني رأيت في خرابك الفناء
محدّقاً إليّ منك ، من دمي
مكشّراً من الحجارة ؟ آه ، أيّ برعم
يُربُّ فيك ؟ برعم الردى !! غداً أموت
و لن يظل من قواي ما يظل من خرائب البيوت :
لا أنشق الضباء ، لا أعضعض الهواء ،
لا أعصر النهار أو يمصّني امساء .
                        *
كأنّ مقلتي ، بل كأنني انبعث ( أورفيوس )
تمصّه الخرائب الهوى إلى الجحيم
فيلتقي بمقلتيه ، يلتقي بها ، بيورديس :       
                        " آه يا عروس
يا توأم الشباب ، يا زنبقة النعيم ! " .
طريقه ابتناه بالحنين و الغناء :
براعم الخلود فتّحت له مغالقَ الفناء .
و بالغناء ، يا صباي ، يا عظام ، يا رميم ،
كسوتك الرواء و الضياء .
                        *
طفولتي ، صباي ، أين .. أين كلُّ ذاك ؟
أين حياة لا يحدّ من طريقها الطويل سور
كشر عن بوّابة كأعين الشباك
تفضي إلى القبور ؟
و الكون بالحياة ينبض : المياه و الصخور
و ذرة الغبار و النمال و الحديد .
وكل لحن ، كل موسمٍ ، جديد :
الحرث و البذار و الزهور .
و كل ضاحك فمن فؤاده ، و كل ناطق فمن فؤاده
و كل نائح فمن فؤاده . و الأرض تدور
و الشمس ، إذ تغيب ، تستريح كالصغير في رقاده .
و المرء لا يموت إن لم يفترسه في الظلام ذيب
أو يختطفه مارد ، و المرء لا يشيب
( فهكذا الشيوخ منذ يولدون
الشّعر الأبيض و العصيّ و الذقون ) .
                        *
و في ليالي الصيف حين ينعس القَمَر
و تذبل النجوم في أوائل السّحَر ،
أفيق أجمع الندى من الشجر
قي قدح ، ليقتل السعال و الهزال .
وفي المساء كنت أستحمّ بالنجوم ،
عيناي تلقطانهن نجمةً فنجمةً ، و راكب الهلال
سفينةً .. كأنّ سندباد في ارتحال :
شراعيَ الغيوم
و مرفأي المحال ،
و أُبصر اللّه على هيئة نخلةٍ ، كتاج نخلة يبيضُّ في الظلام ،
أحسّه يقول : " يا بنيَّ ، يا غلام ،
وهبتُك الحياة و الحنان . و النجوم
وهبتها لمقلتيك ، و المطر
للقدمين الغصّتين . فاشرب الحياه
و عبّها ، يحبّك الإله . "
أهكذا السنون تذهبُ
أهكذا الحياة تنضب ؟
أحس أنني أذوب ، أتعبُ ،
أموت كالشجر . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق